عوده الي الصفحه الرئيسيه

القران الكريم اون لاين

قصه حياه ابو بكر الصديق اول الخلفاء الراشدين 3

التحام الجيشين وانتصار المسلمين

- كان عدد المسلمين كما يأتي:

21.000 عدد جيش الأمراء الأربعة.

6.000 جيش عكرمة بن أبي جهل.

9.000 جيش خالد بن الوليد.

3.000 فلول جيش خالد بن سعيد.

39.000 مجموع جيش المسلمين وقيل 40.000.

جيش الروم:

80.000 مقيد.

40.000 مسلسل للموت.

40.000 مربوطين بالعمائم لئلا يفروا.

80.000 راجل.

240.000

ولم يعرف عدد الفرسان في الجيشين.

عبأ خالد جيشه وقسمه إلى أربعين كردوسا(1) وجعل على كل كردوس رجلا من الشجعان وجعله على ثلاث فرق، قلب وميمنة وميسرة:

- 1 - أبو عبيدة على كراديس القلب.

- 2 - عمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة على كراديس الميمنة.

- 3 - يزيد بن أبي سفيان على كراديس الميسرة.

وجعل على الطلائع قباث بن أشيم(2)، وعلى الأقباض(3) عبد اللّه ببن مسعود. وكان أبو سفيان يسير فيقف على الكراديس فيقول:

(اللّه. اللّه. إنكم ذادة العرب وأنصار الإسلام. وإنهم ذادة الروم وأنصار الشرك اللّهم إن هذا يوم من أيامك. اللّهم أنزل نصرك على عبادك).

وقال رجل لخالد: (ما أكثر الروم وأقل المسلمين).

فقال خالد: (ما أقل الروم وأكثر المسلمين. إنما تكثر الجنود بالنصر وتقل بالخذلان لا بعدد الرجال. واللّه لوددت أن الأشقر"فرسه" بَرَاءٌ من توجيه وأنهم أضعفوا في العدد) وكان فرسه قد حفى في مسيره. ثم أمر خالد عكرمة والقعقاع وكانا على مجنبتي القلب فأنشبا القتال وارتجز القعقاع وقال:

يا ليتني ألقاك في الطراد قبل اعترام الجحفل الوراد

وأنت في حلبتك الوراد

وقال عكرمة:

قد علمت بهكنة الجواري أني على مكرمة أحامي

فنشب القتال، والتحم الناس، وتطارد الفرسان، ثم أتى البريد كما ذكرنا.

-------------------

(1) الكرودس: الخيل العظيمة وقيل القطعة من الخيل العظيمة والكراديس الفرق منهم. ويقال كردس القائد خيله أي جعلها كتيبة كتيبة.

(2) قباث بن أشيم سكن دمشق وشهد بدراً وعقل مجيء الفيل إلى مكة. سأله عبد اللّه بن مروان "أنت أكبر أم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم"؟ فقال: "بل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أكبر مني وأنا أسن منه". فانظر أيها القارئ إلى أدب قباث وحسن جوابه.

وكان سبب إسلامه أن رجالاً من قومه أتوه فقالوا إن محمد بن عبد اللّه بن عبد المطلب قد خرج يدعو الناس إلى دين غير ديننا فقام قباث حتى أتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فلما دخل عليه، قال: إجلس يا قباث أنت الذي قلت - لو خرجت نساء قريش بأكمتها ردت محخمداً وأصحابه - قال قباث والذي بعثك بالحق ما تحرك به لساني ولا ترمرمت به شفتاي ولا سمعته أذناني وما هو إلا شيء هجس في نفسي. أشهد أن لا إلا اللّه وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً رسول اللّه وأن ما جئت به حق. (أسد الغابة).

(3) على الأقباض أي على الغنائم لأن القبض ما جمع من الغنائم.

الفهرس

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

إسلام جرجة

- ثم خرج ( جرجة) حتى كان بين الصفين، ونادى ليخرج إلي خالد فخرج إليه خالد، وأقام أبا عبيدة مكانه فواقفه بين الصفين حتى اختلفت أعناق دابتيهما، وقد أمن أحدهما صاحبه، فقال جرجة:

(يا خالد أصدقني ولا تكذبني، فإن الحر لا يكذب، ولا تخادعني فإن الكريم لا يخادع، أنشدك باللّه هل أنزل اللّه على نبيكم سيفا من السماء فأعطاكه، فلا تسله على قوم إلا هزمتهم؟).

قال: (لا).

قال: فبم سميت سيف اللّه؟

قال: إن اللّه عز وجل بعث فينا نبيه صلى اللّه عليه وسلم فدعانا فنفرنا عنه، ونأينا عنه جميعا، ثم إن بعضنا صدقه وتابعه، وبعضنا باعده وكذبه، فكنت فيمن باعده وكذبه وقاتله، ثم إن اللّه أخذ بقلوبنا ونواصينا وفهدانا به فتبعناه، فقال: أنت سيف من سيوف اللّه سله اللّه على المشركين، ودعا لي بالنصر فسميت سيف اللّه بذلك، فأنا من أشد المسلمين على المشركين.

- صدقتني.

ثم أعاد عليه جرجة:

- يا خالد. أخبرني إلام تدعوني؟

- إلى شهادة أن لا إله إلا اللّه وأن محمدا عبده ورسوله، والإقرار بما جاء من عند اللّه.

- فمن لم يجبكم؟

- فالجزية ونمنعه.

- فإن لم يعطها؟

- نؤذنه بحرب ثم نقاتله.

- فما منزلة الذي يدخل فيكم ويجيبكم إلى هذا الأمر اليوم؟

- منزلتنا واحدة فيما افترض اللّه علينا شريفنا، ووضيعنا، وأولنا وآخرنا.

ثم أعاد عليه جرجة:

- هل لمن دخل فيكم اليوم يا خالد مثل ما لكم من الأجر والذخر؟

- نعم وأفضل.

- كيف يساويكم وقد سبقتموه؟

- إنا دخلنا في هذا الأمر وبايعنا نبينا صلى اللّه عليه وسلم وهو حي بين أظهرنا تأتيه أخبار السماء، ويخبرنا بالكتب، ويرينا الآيات وحق لمن رأى ما رأينا، وسمع ما سمعنا أن يسلم ويبايع، وإنكم أنتم لم تروا ما رأينا، ولم تسمعوا ما سمعنا من العجائب والحجج فمن دخل في هذا الأمر منكم بحقيقة ونية كان أفضل منا.

- باللّه لقد صدقتني ولم تخادعني ولم تألفني؟

- باللّه لقد صدقتك وما بي إليك، ولا إلى أحد منكم وحشة وإني لو لي ما سألت عنه.

- صدقتني.

ثم قلب جرجة الترس ومال مع خالد. وقال: علمني الإسلام فمال به خالد إلى فسطاطه فشن عليه قربة من ماء ثم صلى جرجة ركعتين وحملت الروم مع انقلابه على خالد إذ كانوا يظنون أن جرجة يحمل على المسلمين، فأزالوا المسلمين عن مواقفهم، فركب خالد معه جرجة والروم خلال المسلمين فتنادى الناس فثابوا، وتراجعت الروم على مواقفهم.

استمرار القتال.

- زحف خالد حتى تصافح الجيشان بالسيوف، فضرب فيهم خالد وجرجة من ارتفاع النهار إلى الغروب، ثم أصيب جرجة، ولم يصل صلاة سجد فيها إلا الركعتين اللتين أسلم عليهما وصلى الناس الأولى والعصر إيماء وتضعضع الروم، ونهض خالد بالقلب حتى كان بين خيلهم ورجلهم، ففر الفرسان إلى الصحراء، وبقي المشاة، فاقتحم المسلمون خندقهم فهوى فيها المقترنون بالسلاسل والعمائم وغيرهم، وقتلوا وقتل الفيقار وأشراف الروم، وكان عدد من تهافت في الخندق 120.000 منهم 80.000 مقرن 40.000 مطلق سوى من قتل في المعركة من الفرسان والمشاة.

ولما انهزمت الروم كان هرقل بحمص فنادى بالرحيل عنها قريبا وجعلها بينه وبين المسلمين، وأمر عليها أميرا كما أمر على دمشق.

قتلى المسلمين.

- أصيب من المسلمين 3000 منهم:

عكرمة وابنه عمرو. سلمة بن هشام. وعمرو بن سعيد. أبان بن سعيد وأثبت خالد بن سعيد فلا يدري أين مات بعد. جندب بن عمرو. الطفيل بن عمرو. طليب بن عمير. هشام بن العاص. عياش بن أبي ربيعة. سعيد بن الحارث بن قيس بن عدي السهمي. نعيم بن عبد اللّه النحام العدوي. النصير بن الحارث بن علقمة. أبو الروم بن عمير بن هاشم العبدري. وأصيبت عين أبي سفيان بن حرب في الموقعة فأخرج السهم من عينه أبو حثمة. وقد قاتل النساء ومنهن جويرية بنت أبي سفيان.

وقال خالد يومئذ:

(الحمد للّه الذي قضى على أبي بكر بالموت وكان أحب إلي من عمر والحمد للّه الذي ولى عمر وكان أبغض إلي من أبي بكر ثم ألزمني حبه).

وكان عمر ساخطا على خالد في خلافة أبي بكر كلها لوقعته بابن نويرة وما كان يعمل في حربه، ولذا كان أول عمله عزل خالد. وقال لا يلي لي عملا أبدا. ثم إن عمر رضي اللّه عنه لما رأى انتصارات خالد الباهرة وانقياد المسلمين له في جميع الوقائع واستماتتهم بين يديه خشي أن يفتتن الناس به وربما تحدثه نفسه فيشق عصا المسلمين. وروى أن عمر استدعاه بعد عزله إلى المدينة فعاتبه خالد. فقال له عمر: (ما عزلتك لريبة فيك ولكن افتتن بك الناس فخفت أن تفتتن بالناس).

المثنى بالعراق بعد رحيل خالد بن الوليد. النصف الأول من سنة 13هـ (آذار مارس - آب أغسطس سنة 634 م)

- لم يكن خالد بن الوليد مطمئنا على حالة العراق بعد أن نقص عدد الجيش فأرسل المرضى والنساء والأطفال إلى بلادهم. وبذل المثنى ما في وسعه بعد رحيل خالد عنه لتقوية ما بينه وبين الفرس من جهة العاصمة وقد تولى أمر الفرس بعد مسير خالد بقليل شهر براز بن أردشير بن شهريار سابور ففكر في طرد المسلمين فجند جيشا قويا مؤلفا من 10.000 مقاتل تحت قيادة هرمز جاذويه وخرج المثنى من الحيرة نحوه وكان عدد جيشه أقل كثيرا من جيش الفرس وعلى مجنبتيه المعنى ومسعود أخواه فأقام ببابل وأقبل هرمز نحوه.

ولما كان ملك الفرس واثقا من النصر، أرسل إلى المثنى كتابا قبيحا قال فيه:

(إني بعثت إليكم جندا من وحش أهل فارس، إنما هم رعاة الدجاج والخنازير ولست أقاتلك إلا بهم).

فكتب إليه المثنى:

(إنما أنت أحد رجلين، إما باغ فذلك شر لك وخير لنا، وإما كاذب فأعظم الكاذبين فضيحة عند اللّه وعند الناس الملوك. وأما الذي يدلنا عليه الرأي فإنكم إنما اضطررتم إليهم فالحمد للّه الذي رد كيدكم إلى رعاة الدجاج والخنازير).

موقعة بابل صيف سنة 13هـ - سنة 634 م.

- وبعد أن أرسل المثنى هذا الرد إلى شهر براز زحف للقاء هرمز ببابل تاركا بالحيرة قوة صغيرة فاقتتلوا قتالا شديدا وكان على جيش الفرس فيل كبير يفرق جموع المسلمين فأحاط به المثنى ومعه ناس وتمكنوا من قتله. فانهزم الفرس وتبعهم جيش المثنى إلى أبواب المدائن (عاصمة الفرس) يقتلونهم. وفي ذلك يقول عبدة بن الطبيب السعدي وكان عبدة قد هاجر لمهاجرة حليلة له حتى شهد موقعة بابل، فلما آيسته رجع إلى البادية فقال من قصيدة له:

هل حبل خولة بعد البين موصول ** أم أنت عنها بعيد الدار مشغول

للأحبة أيام تذكرها وللنوى** قبل يوم البين تأويل

حلت خويلة في حي عهدتهم ** دون المدائن فيها الديك والفيل

يقارعون رؤوس العجم ضاحية ** منهم فوارس لا عزل ولا ميل

وقال الفرزدق يعدد بيوتات بكر بن ** وائل وذكر المثنى وقتله الفيل

وبيت المثنى قاتل الفيل عنوة ** ببابل إذ في فارس ملك بابل

المثنى يطلب النجدة من أبي بكر.

- لما انهزم هرمز جاذويه قتل الجند ملكهم شهر براز واختلف أهل فارس وبقي ما دون دجلة بيد المثنى فاضطر أن يحمي حدودا شاسعة لم تكن جنوده تكفي لحمايتها ثم اجتمعت الفرس على ابنة كسرى واسمها (دخت زنان) لكنها ما لبثت أن خلعت وتولى الملك سابور بن شهر براز إلا أنه قتل وملكت (آزرمي دخت)(1)، وهذا الخلاف والغدر أديا إلى إضعاف السلطة الحاكمة في فارس ولم يكن هناك ما يخشاه المثنى كثيرا ولكنه على كل حال كان في حاجة إلى حماية الحدود كما قلنا. فكتب إلى أبي بكر يستمده ويستأذنه في الاستعانة بمن حسنت توبته من المرتدين لأنهم أنشط في القتال من غيرهم. فلما أبطأ خبر أبي بكر على المثنى استخلف على المسلمين بشير بن الخصاصية وسار إلى المدينة إلى أبي بكر فلما قدم المدينة وجد أبا بكر مريضا فاستدعى أبو بكر عمر وقال له:

(إني لأرجو أن أموت يومي هذا "وذلك يوم الاثنين" وإذا مت فلا تمسين حتى تندب الناس مع المثنى وإن تأخرت إلى الليل فلا تصبحن حتى تندب الناس مع المثنى ولا يشغلنكم مصيبة وإن عظمت عن أمر دينكم ووصية ربكم، وقد رأيتني متوفى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وما صنعت وما أصيب الخلق بمثله. وباللّه لو أني أني عن أمر اللّه وأمر رسوله لخذلنا ولعقبنا فاضطرمت المدينة نارا، وإذا فتح اللّه على أمراء الشام فاردد أصحاب خالد إلى العراق فإنهم أهله وولاة أمره وحده وأهل الدراوة بهم والجراءة عليهم).

وقال عمر متأثرا برقة كلام أبي بكر وهو على فراش الموت: (قد علم أبو بكر أنه يسوءني أن أؤمر خالدا فلهذا أمرني أن أرد أصحاب خالد وترك ذكره معهم).

ومات أبو بكر ليلا فدفنه عمر ودعا الناس مع المثنى.

-------------------

(1) Azarmi - Dukht.

الفهرس

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وفاة أبي بكر الصديق رضي اللّه عنه 22 جمادى الآخرة سنة 13هـ (23 آب أغسطس سنة 634 م)

- توفي أبو بكر رضي اللّه عنه لثمان بقين من جمادى الآخرة ليلة الثلاثاء بين المغرب والعشاء وهو ابن ثلاث وستين سنة، وكان قد سمه اليهود في أرز وقيل في حريرة وهي الحساء، فأكل هو والحارث بنكلدة وقال لأبي بكر أكلنا طعاما مسموما سم سنة فماتا بعده بسنة، وقيل إنه اغتسل وكان يوما باردا فحم خمسة عشر يوما لا يخرج إلى الصلاة فأمر عمر أن يصلي بالناس(1).

ولما مرض قال له الناس ألا ندعو الطبيب؟ فقال: أتاني وقال لي أنا فاعل ما أريد، فعلموا مراده وسكتوا عنه ثم مات.

وكانت خلافته سنتين وثلاثة أشهر وعشر ليال، وأوصى أن تغسله زوجته أسماء بنت عميس وابنه عبد الرحمن(2) وأن يكفن في ثوبيه ويشتري معهما ثوب ثالث. وقال: الحي أحوج إلى الجديد من الميت إنما هو للمهلة والصديد. غسلت أبا بكر زوجته أسماء ثم خرجت فسألت من حضرها من المهاجرين فقالت إني صائمة وهذا يوم شديد البرد فهل علي غسل؟ قالوا لا(3).

وقد روي أنه اغتسل في يوم بارد فحم فمن ذلك يتبين أن الجو كان باردا في هذه الأيام فإنه حم بسبب استحمامه في يوم بارد. كذلك غسل في يوم بارد؛ لذلك نرجح سبب وفاته كان تأثره بالبرد لا بسبب السم الذي قيل إن اليهود دسوه له في الحساء؛ لأن حادثة السم المزعومة كانت قبل وفاته بسنة. ودفن ليلة وفاته وصلى عليه عمر بن الخطاب وكبر عليه أربعا في مسجد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بين القبر والمنبر، ودخل قبره ابنه عبد الرحمن وعمر وعثمان وطلحة وجعل رأسه عند كتفي النبي صلى اللّه عليه وسلم وألصقوا لحده بلحد النبي صلى اللّه عليه وسلم وجعل قبره مثل قبره مسطحا وناحت عليه عائشة والنساء فنهاهن عن البكاء عمر فأبين فقال لهشام بن الوليد ادخل فأخرج علي ابنة أبي قحافة. فأخرج إليه أم فروة بنت أبي قحافة أخت أبي بكر فعلاها بالدرة (السوط) ضربات فتفرق النوح حين سمعن ذلك. وكان آخر ما تكلم به (توفني مسلما وألحقني بالصالحين) وكانت عائشة رضي اللّه عنها تمرضه.

-------------------

(1) اغتسل يوم الاثنين لسبع خلون من جمادى الآخرة. عن عبد الرحمن بن أبي بكر.

(2) وفي نزهة النواظر أن الذي غسله علي رضي اللّه عنه، وهذا غير ثابت، والصواب أن أسماء زوجته هي التي غسلته.

(3) راجع طبقات ابن سعد "أبو بكر".

الفهرس

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أبو بكر يستشير أصحابه في عمر

- عقد أبو بكر في مرضه الذي توفي فيه لعمر بن الخطاب عقد الخلافة من بعده، ولما أراد العقد له دعا عبد الرحمن بن عوف. فقال: أخبرني عن عمر. فقال يا خليفة رسول اللّه: هو واللّه أفضل من رأيك فيه من رجل، ولكن فيه غلظة. فقال أبو بكر: ذلك لأنه يراني رقيقا ولو أفضى الأمر إليه لترك كثيرا مما هو عليه. ويا أبا محمد قد رمقته فرأيتني إذا غضبت على الرجل في الشيء، أراني الرضا عنه، وإذا لنت أراني الشدة عليه، لا تذكر يا أبا محمد مما قلت لك شيئا. قال: نعم.

ثم دعا عثمان بن عفان، فقال: يا أبا عبد اللّه أخبرني عن عمر. قال: أنت أخبر به. فقال أبو بكر: علي ذلك يا أبا عبد الرحمن. قال: اللّهم علمي به أن سريرته خير من علانيته، وأن ليس فينا مثله.

قال أبو بكر: يا أبا عبد اللّه لا تذكر مما ذكرت لك شيئا. قال: أفعل. فقال أبو بكر: لو تركته ما عدوتك وما أدري لعله تاركه، والخيرة له أن لا يلي من أموركم شيئا ولوددت أني كنت خلوا من أموركم، وأني كنت فيمن مضى من سلفكم. يا أبا عبد اللّه لا تذكر مما قلت لك من أمر عمر، ولا مما دعوتك له شيئا.

ودخل على أبي بكر طلحة بن عبيد اللّه. فقال: استخلفت على الناس عمر، وقد رأيت ما يلقى الناس منه وأنت معه، فكيف إذا خلا بهم، وأنت لاق ربك فسائلك عن رعيتك؟ فقال أبو بكر: وكان مضطجعا أجلسوني. فأجلسوه. فقال لطلحة: (أباللّه تفرقني أو باللّه تخوفني، إذا لقيت اللّه ربي فساءلني قلت: استخلفت على أهلك خير أهلك)؟

وأشرف أبو بكر على الناس من حظيرته وأسماء بنت عميس ممسكته موشومة اليدين وهو يقول:

(أترضون بمن أستخلف عليكم فإني واللّه ما ألوت من جهد الرأي، ولا وليت ذا قرابة، وإني قد استخلفت عمر بن الخطاب فاسمعوا له وأطيعوا فقالوا: (سمعنا وأطعنا).

قال الواقدي: دعا أبو بكر عثمان خاليا. فقال له أكتب: (بسم اللّه الرحمن الرحيم. هذا ما عهد به أبو بكر بن أبي قحافة إلى المسلمين. أما بعد) ثم أغمي عليه فذهب عنه. فكتب عثمان: (أما بعد فإني أستخلف عليكم عمر بن الخطاب ولم آلكم خيرا) ثم أفاق أبو بكر فقال: (اقرأ علي) فقرأ عليه فكبر أبو بكر وقال:

(أراك خفت أن يختلف الناس إن مت في غشيتي). قال: نعم. قال: (جزاك اللّه خيرا عن الإسلام وأهله) وأقرها أبو بكر رضي اللّه عنه من هذا الموضع. فأبو بكر كان يرى ويعتقد أن عمر بن الخطاب خير من يتولى الخلافة بعده مع شدته. والحقيقة أنه كان كذلك.

وصية أبي بكر لعمر بن الخطاب.

- ثم أحضر أبو بكر عمر فقال له:

(إني قد استخلفتك على أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم) وأوصاه بتقوى اللّه ثم قال:

(يا عمر إن للّه حقا بالليل ولا يقبله بالنهار، وحقا بالنهار ولا يقبله بالليل وأنه لا يقبل نافلة حتى تؤدي الفريضة. ألم تر يا عمر أنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة باتباعهم الحق، وثقله عليهم وحق لميزان لا يوضع فيه غدا إلا حق أن يكون ثقيلا. ألم تر يا عمر إنما خفت موازين من خفت موازينه يوم القيامة باتباعهم الباطل وخفته عليهم. وحق لميزان لا يوضع فيه إلا الباطل أن يكون خفيفا. ألم تر يا عمر إنما نزلت آية الرخاء مع الشدة، وآية الشدة مع آية الرخاء. ليكون المؤمن راغبا راهبا، لا يرغب رغبة يتمنى فيها على اللّه ما ليس له، ولا يرهب رهبة يلقى فيها بيديه. ألم تر يا عمر إنما ذكر اللّه أهل النار بأسوأ أعمالهم. فإذا ذكرتهم قلت إني لأرجو ألا أمون منهم وإنه إنما ذكر أهل الجنة بأحسن أعمالهم لأنه تجاوز لهم عما كان من سيئ فإذا ذكرتهم قلت أين عملي من أعمالهم، فإذا حفظت وصيتي فلا يكونن غائب أحب إليك من حاضر من الموت ولست بمعجزة).

خطبة علي في تأبين أبي بكر.

- لما سمع علي رضي اللّه عنه خبر وفاة أبي بكر جاء باكيا مسرعا مسترجعا حتى وقف بالباب وهو يقول:

رحمك اللّه يا أبا بكر كنت واللّه أول القوم إسلاما، وأخلقهم إيمانا وأشدهم يقينا، وأعظمهم غنى، وأحفظهم على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأحدبهم على الإسلام، وأحماهم عن أهله، وأنسبهم برسول اللّه خلقا، وفضلا، وهديا، وصمتا، فجزاك اللّه عن الإسلام، وعن رسول اللّه، وعن المسلمين خيرا، صدقت رسول اللّه حين كذبه الناس وواسيته حين بخلوا، وقمت معه حين قعدوا، وسماك اللّه في كتابه صديقا. فقال: (والذي جاءك بالصدق وصدق به) يريد محمدا ويريدك. كنت واللّه للإسلام حصنا، وللكافرين ناكبا، لم تضلل حجتك ولم تضعف بصيرتك، ولم تجبن نفسك كالجبل لا تحركه العواصف، ولا تزيله القواصف، كنت كما قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ضعيفا في بدنك، قويا في دينك، متواضعا في نفسك، عظيما عند اللّه، جليلا في الأرض كبيرا عند المؤمنين، لم يكن لأحد عندك مطمع ولا هوى، فالضعيف عندك قوي والقوي عندك ضعيف، حتى تأخذ الحق من القوي وتعطيه للضعيف، فلا حرمنا اللّه أجرك، ولا أضلنا بعدك.

خطبة ابنته عائشة في تأبينه.

- نضر اللّه يا أبت وجهك، وشكر لك صالح سعيك، فلقد كنت للدنيا مذلا بإدبارك عنها، وللآخرة معزا بإقبالك عليها، ولئن كان أعظم المصائب بعد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رزؤك، وأكبر الأحداث بعده فقدك، إن كتاب اللّه عز وجل ليعدنا بالصبر عنك حسن العوض، وأنا منتجزة من اللّه موعده فيك بالصبر عنك، ومستعينة كثرة الاستغفار لك، فسلم اللّه عليك، توديع غير قالية لحياتك، ولا زارية على القضاء فيك.

اعتراف أبي بكر.

- قال أبو بكر: إني لا آسي على شيء من الدنيا إلا على ثلاث فعلتهن وددت لو أني تركتهن. وثلاث تركتهن وددت لو أني فعلتهن وثلاث وددت أني سألت عنهن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.

فأما الثلاث اللاتي وددت أني تركتهن فوددت أني لم أكشف بيت فاطمة عن شيء وإن كانوا قد غلقوه على الحرب، ووددت أني لم أكن حرقت الفجاءة السلمى(1) وأني كنت قتلته سريحا أو خليته نجيحا. ووددت أني يوم سقيفة بني ساعدة كنت قد قذفت الأمر في عنق أحد الرجلين (يريد عمر وأبا عبيدة) فكان أحدهما أميرا وكنت وزيرا.

أما اللاتي تركتهن فوددت أني يوم أتيت بالأشعث بن قيس أسيرا كنت ضربت عنقه فإنه تخيل إلي أنه لا يرى شرا إلا أعان عليه. ووددت أني حين سيرت خالد بن الوليد إلى أهل الردة كنت أقمت بذي القصة فإن ظفر المسلمون ظفروا وإن هزموا كنت بصدد لقاء أو مدد، أو وددت أني كنت إذ وجهت خالد بن الوليد إلى الشام كنت وجهت عمر بن الخطاب إلى العراق فكنت بسطت يدي كلتيهما في سبيل اللّه ومد يديه.

ووددت أني كنت سألت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لمن هذا الأمر فلا ينازعه أحد، ووددت أني كنت سألته هل للأنصار في هذا الأمر نصيب، ووددت أني كنت سألته عن ميراث ابنة الأخ والعمة فإن في نفسي منهما شيئا.

-------------------

(1) واسمه إياس بن عبد ياليل. والسبب الذي دعاه أبا بكر إلى حرقه وهو أنه جاء إليه فقال أعني بالسلاح أقاتل به أهل الردة فأعطاه سلاحاً وأمره إمرة فخالف إلى المسلمين وخرج حتى نزل بالجواء وبعث نجبة بن أبي الميثاء من بني الشريد وأمره بالمسلمين فشن الغارة على كل مسلم في سليم وعامر وهوازن فبلغ ذلك أبا بكر فأرسل إلى طريفة بن حاجز فأمره أن يجمع له ويسير إليه وبعث إليه عبد اللّه بن قيس الجاسي عوناً غنهضا إليه وطلباه فلاذ منهما ثم لقياه على الجواء فاقتتلوا وقتل نجبة وهرب الفجاءة فلحقه طريفة فأسره ثم بعث به إلى أبي بكر. فلما قدم أمر أبو بكر أن توقد له نار في مصلى المدينة ثم رمى به مقموطاً. فهذا الذب ندم أبو بكر على حرقه وود لو قتله أو خلى سبيله.

الفهرس

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عمل أبي بكر ومنزله مدة خلافته

- كان أبو بكر قبل أن يشتغل بأمور المسلمين تاجرا وكان منزله بالسنح عند زوجته حبيبة (والسنح من ضواحي المدينة) ثم تحول إلى المدينة بعدما بويع له بستة أشهر وكان يغدو على رجليه إلى المدينة وربما ركب على فرس وعليه إزار ورداء ممشق فيوافي المدينة، فيصلي الصلوات بالناس فإذا صلى العشاء رجع إلى أهله بالسنح، فكان إذا حضر صلى بالناس وإذا لم يحضر صلى بهم عمر بن الخطاب،فكان يقيم يوم الجمعة صدر النهار بالسنح يصبغ رأسه ولحيته ثم يروح لقدر يوم الجمعة فيجمع الناس وكان رجلا تاجرا، فكان يغدو كل يوم إلى السوق فيبيع ويبتاع، وكانت له قطعة غنم تروح عليه وربما خرج هو بنفسه فيها وربما كفيها فرعيت له، وكان يحلب للحي أغنامهم، فلما بويع له بالخلافة قالت جارية من الحي (الآن لا تحلب لنا منائح دارنا) فسمعها أبو بكر فقال: (بلى لعمري لأحلبنها لكم وإني لأرجو أن لا يغيرني ما دخلت فيه من خلق كنت عليه) فكان يحلب لهم.

ثم نظر أبو بكر في أمره فقال: (لا واللّه ما تصلح أمور الناس التجارة وما يصلحهم إلا التفرغ لهم والنظر في شأنهم ولا بد لعيالي مما يصلحهم) فترك التجارة وأنفق من مال المسلمين ما يصلحه ويصلح عياله يوما بيوم ويحج ويعتمر؛ وكان الذي فرضوا له في كل سنة 6000 درهم فلما حضرته الوفاة؛ قال: (ردوا ما عندنا من مال المسلمين فإني لا أصيب من هذا المال شيئا، وإن أرضي التي بمكان كذا وكذا للمسلمين بما أصبت من أموالهم) فدفع ذلك إلى عمر ودفع إليه بعيرا وعبدا وقطيفة ما تساوي خمسة دراهم. فقال عمر: (لقد أتعب من بعده).

وحسبوا ما أنفقه على أهله من بيت المال فوجدوه 8000 درهم في ولايته وكان يوزع الصدقات على الفقراء وعلى تجهيز الجيوش. كذلك كان يوزع غنائم الحرب على الناس حال وصولها أو في صباح اليوم التالي ولم يكن له حرس يحرسونه وكان يستشير عمر بن الخطاب.

بيت مال المسلمين.

- كان لأبي بكر الصديق بيت مال بالسنح معروف ليس يحرسه أحد فقيل له: يا خليفة رسول اللّه ألا تجعل على بيت المال من يحرسه؟ فقال: لا يخاف عليه. فقيل له: لم؟ قال: عليه قفل. وكان يعطي ما فيه حتى لا يبقى فيه شيء. فلما تحول أبو بكر إلى المدينة حوله فجعل بيت ماله في الدار التي كان فيها وكان يسوي بين الناس في القسم: الحر والعبد، والذكر والأنثى، والصغير والكبير فيه سواء.

ولما توفي ودفن دعا عمر بن الخطاب الأمناء ودخل بهم بيت المال ومعه عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان وغيرهما ففتحوا بيت المال فلم يجدوا فيه دينارا ولا درهما فترحموا على أبي بكر. وكان بالمدينة وزان على عهد رسول اللّه وكان يزن ما كان عند أبي بكر من مال فسئل الوزان: كم بلغ ذلك المال الذي ورد على أبي بكر؟ فقال: مائتي ألف.

حج أبي بكر.

- استعمل أبو بكر على الحج سنة 11هـ عمر بن الخطاب، ثم اعتمر أبو بكر في رجب سنة 12هـ، ثم رجع إلى المدينة. فلما كان وقت الحج سنة 12هـ حج أبو بكر بالناس تلك السنة وأفرد الحج واستخلف على المدينة عثمان بن عفان.

جمع القرآن.

- كان أبو بكر الصديق أعلم الصحابة بالقرآن، لأن رسول اللّه قدمه إماما للصلاة بالصحابة مع قوله: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب اللّه) وقال: (لا ينبغي لقوم فيهم أبو بكر أن يؤمهم غيره).

ولما رأى كثرة من قتل من كبارالصحابة باليمامة أمر بجمع القرآن من أفواه الرجال، وجريد النخل والجلود، وترك ذلك المكتوب عند حفصة بنت عمر رضي اللّه عنها زوجة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم(1).

جاء في صحيح البخاري عن زيد بن ثابت قال: (أرسل إلي أبو بكر مقتل أهل اليمامة وعنده عمر. فقال: إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحر يوم اليمامة بالناس، وإني لأخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن فيذهب كثير من القرآن إلا أن يجمعوه، وإني لأرى أن يجمع القرآن. قال أبو بكر: فقلت لعمر كيف أفعل شيئا لم يفعله رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم؟ فقال عمر: هو واللّه خير. فلم يزل عمر يراجعني فيه حتى شرح اللّه لذلك صدري فرأيت الذي رأى عمر. قال زيد: وعمر عنده جالس لا يتكلم. فقال أبو بكر: إنك شاب عاقل ولا نتهمك وقد كنت تكتب الوحي لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فتتبع القرآن فأجمعه. فواللّه لو كلفني نقل جبل ما كان أثقل علي مما كلفني به من جمع القرآن. فقلت: كيف تفعلان شيئا لم يفعله رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم؟ فقال أبو بكر: هو واللّه خير. فلم أزل أراجعه حتى شرح اللّه صدري للذي شرح صدر أبي بكر وعمر. فتتبعت القرآن أجمعه من الرقاع والأكتاف والعسب وصدور الرجال حتى وجدت من سورة التوبة آيتين مع خزيمة بن ثابت لم أجدهما مع غيره {لقد جاءكم رسول من أنفسكم} إلى آخرها. فكانت الصحف التي فيها القرآن عند أبي بكر حتى توفاه اللّه ثم عند عمر حتى توفاه اللّه ثم عند حفصة بنت عمر رضي اللّه عنها).

-------------------

(1) جمع القرآن على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أربعة كلهم من الأنصار: أبي بن كعب ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأبو زيد - رواه البخاري.

الفهرس

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قضاته وكتابه وعماله

- لما ولي أبو بكر قال أبو عبيدة: أنا أكفيك بيت المال. وقال له عمر: أنا أكفيك القضاء فمكث عمر سنة لا يأتيه رجلان.

وكان يكتب له علي بن أبي طالب، وزيد بن ثابت، وعثمان بن عفان، فإن غابوا كان يكتب له من حضر.

وكان عامله على مكة (عتاب بن أسيد): وقد أسلم عتاب يوم الفتح، واستعمله رسول اللّه على مكة حين انصرف عنه بعد الفتح وسنه يومئذ عشرون سنة. قيل إنه توفي في اليوم الذي توفي فيه أبو بكر. وكان رجلا صالحا فاضلا.

وكان على الطائف (عثمان بن أبي العاص): استعمله رسول اللّه على الطائف وأقره أبو بكر وعمر رضي اللّه عنهما. روى له عن رسول اللّه تسعة أحاديث. روى مسلم ثلاثة منها، واستعمله عمر على عمان والبحرين ثم نزل البصرة. توفي في خلافة معاوية، وله عقب كثير أشراف.

وكان على صنعاء (المهاجر بن أمية) وهو أخو أم سلمة أم المؤمنين. وله في قتال المرتدين باليمن آثار كثيرة مر ذكرها.

وكان على حضرموت (زياد بن لبيد الأنصاري) أقام مع رسول اللّه بمكة حتى هاجر فكان يقال له مهاجري أنصاري. شهد العقبة وبدرا وأحدا، والخندق والمشاهد كلها مع رسول اللّه، واستعمله رسول اللّه على حضرموت.

وعلى خولان(1) (يعلى بن أمية) ويقال له يعلى بن منية وهي أمه، أسلم يوم فتح مكة وشهد حنينا والطائف وتبوك مع رسول اللّه، روى له عن رسول اللّه 28 حديثا. اتفق البخاري ومسلم على ثلاث منها وقتل بصفين سنة 37 هـ.

وعلى زبيد ورمع(2) (أبو موسى الأشعري): قدم على رسول اللّه بمكة قبل هجرته إلى المدينة فأسلم، ثم هاجر إلى الحبشة ثم هاجر إلى رسول اللّه مع أصحاب السفينتين بعد فتح خيبر، فأسهم له منها ولم يسهم منها لأحد غاب عن فتحها غيره. وكان حسن الصوت، استعمله رسول اللّه على زبيد، وعدن، وساحل اليمن. روي له عن رسول اللّه 360 حديثا. اتفق البخاري ومسلم منها على 50 وانفرد البخاري بخمسة عشر. توفي بمكة، وقيل بالكوفة سنة 50هـ وهو ابن 63 سنة.

وعلى الجند (معاذ بن جبل): كان معاذا فقيها فاضلا صالحا. أسلم وهو ابن ثماني عشرة سنة مع السبعين من الأنصار ثم شهد بدرا وأحدا والخندق والمشاهد كلها مع رسول اللّه، روي له عن رسول اللّه 157 حديثا اتفق البخاري ومسلم على حديثين منها، وانفرد البخاري بثلاثة ومسلم بحديث. توفي في عمواس بالشام سنة 18هـ وهو ابن 33 سنة وهو من الأربعة الذين جمعوا القرآن على عهد رسول اللّه، أرسله رسول اللّه إلى اليمن يدعوه إلى الإسلام وشرائعه. وهو أحد الذين كانوا يفتون على عهد رسول اللّه.

وعلى البحرين (العلاء بن الحضرمي): ولاه النبي صلى اللّه عليه وسلم البحرين وتوفي النبي صلى اللّه عليه وسلم وهو عليها فأقره أبو بكر ثم عمر. توفي سنة 14 واليا عليها، وكان مجاب الدعوة وخاض البحر بكلمات قالهن. وكان له أثر عظيم في قتال أهل الردة في البحرين كما تقدم.

وبعث (جرير بن عبد اللّه) إلى نجران. روي له عن رسول اللّه 100 حديث اتفق البخاري ومسلم منها على ثمانية وانفرد البخاري بحديث ومسلم بستة. قدم على النبي صلى اللّه عليه وسلم سنة عشر من الهجرة في شهر رمضان فبايعه وأسلم. وكان عمر بن الخطاب يقول (جرير يوسف هذه الأمة) لحسنه وكان طويلا يصل إلى سنام البعير يخضب لحيته بزعفران بالليل ويغسلها إذا أصبح، واعتزل عليا ومعاوية وأقام بالجزيرة ونواحيها حتى توفي سنة 54هـ.

وبعث (عبد اللّه بن ثوب) إلى جرش(3) وهو عبد اللّه بن ثوب أبو مسلم الخولاني من كبار التابعين وكان فاضلا ناسكا له فضائل كثيرة أسلم قبل وفاة النبي صلى اللّه عليه وسلم. بعث الأسود بن قيس بن ذي الخمار الذي تنبأ باليمن إلى أبي مسلم فلما جاءه قال: أتشهد أني رسول اللّه؟ قال: ما أسمع. قال: أتشهد أن محمدا رسول اللّه؟ قال: نعم. فرد ذلك عليه وفي كل مرة يقول مثل قوله الأول فأمر به فألقي في نار عظيمة فلم تضره، فقيل له أنفيه عنك وإلا أفسد عليك من اتبعك. قال فأمره بالرحيل فأتى المدينة وقد قبض النبي صلى اللّه عليه وسلم واستخلف أبو بكر فأناخ أبو مسلم راحلته بباب المسجد وبصر به عمر بن الخطاب فقام إليه. فقال: ممن الرجل؟ قال: من أهل اليمن. قال: ما فعل الرجل الذي أحرقه الكذاب بالنار؟ قال: ذاك عبد اللّه بن ثوب. قال: أنشدك اللّه أنت هو؟ قال: اللّهم نعم. فاعتنقه عمر وبكى ثم ذهب به حتى أجلسه فيما بينه وبين أبي بكر وقال: الحمد للّه الذي لم يمتني حتى أراني من أمة محمد من فعل به ما فعل بإبراهيم خليل اللّه صلى اللّه عليه وسلم "أسد الغابة".

وبعث (عياض بن غنم) إلى دومة الجندل. أسلم عياض قبل الحديبية وشهدها، وكان صالحا فاضلا جوادا. وكان يسمى (زاد الركاب) يطعم الناس زاده فإذا نفد الزاد نحر لهم بعيره. توفي بالشام سنة 20هـ وهو ابن 60 سنة.

وكان بالشام (أبو عبيدة بن الجراح وشرحبيل بن حسنة) قديما وأخواه لأمه جنادة وجابر. هاجروا إلى الحبشة ثم إلى المدينة. توفي في طاعون عمواس سنة 18هـ وله 67 سنة. أصيب هو وأبو عبيدة رضي اللّه عنهما في يوم أحد.

وكان بالشام أيضا عمرو بن العاص ويزيد بن أبي سفيان. وكان يقال ليزيد يزيد الخير. أسلم يوم الفتح وشهد حنينا وأعطاه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم 100 بعير وأربعين أوقية يومئذ. فلما استخلف عمر ولاه فلسطين وناحيتها. مات في طاعون عمواس سنة 18هـ.

وكان على العراق المثنى بن حارثة الشيباني.

-------------------

(1) خولان: مخلاف من مخاليف اليمن.

(2) زبيد: واد باليمن ورمع: موضع باليمن وقيل هو جبل باليمن.

(3) جرش: من مخاليف اليمن جهة مكة.

الفهرس

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

خاتم أبي بكر

- كان نقش خاتمه: (نعم القادر اللّه).

حكم أبي بكر وكلماته

- 1 - احرص على الموت توهب لك الحياة.

- 2 - إذا استشرت فاصدق الحديث تصدق المشورة ولا تحزن عن المشير خبرك فتؤتى من قبل نفسك.

- 3 - إذا فاتك خير فأدركه وإن أدركك فاسبقه.

- 4 - أربع من كن فيه كان من خيار عباد اللّه: من فرح بالتائب، واستغفر للمذنب، ودعا المدبر، وأعان المحسن.

- 5 - أصلح نفسك يصلح لك الناس.

- 6 - أكيس الكيس التقوى، وأحمق الحمق الفجور، وأصدق الصدق الأمانة، وأكذب الكذب الخيانة.

- 7 - إن أقواكم عندي الضعيف حتى آخذ له بحقه، وإن أضعفكم عندي القوي حتى آخذ منه الحق.

- 8 - إن اللّه قرن وعده بوعيده ليكون العبد راغبا راهبا.

- 9 - إن اللّه يرى من باطنك ما يرى من ظاهرك.

- 10 - إن العبد إذا دخله العجب بشيء من زينة الدنيا مقته اللّه تعالى حتى يفارق تلك الزينة.

- 11 - إن عليك من اللّه عيونا تراك.

- 12 - إن كثير الكلام ينسى بعضه بعضا.

- 13 - إن كل من لم يهده اللّه ضال. وكل من لم يعافه اللّه مبتلي. وكل من لم يعنه اللّه مخذول. فمن هدى اللّه كان مهتديا. ومن أضله اللّه كان ضالا.

- 14 - ثلاث من كن فيه كن عليه: البغي والنكث والمكر.

- 15 - حق لميزان يوضع فيه الحق أن يكون ثقيلا، وحث لميزان يوضع فيه الباطل أن يكون خفيفا.

- 16 - خير الخصلتين لك أبغضهما إليك.

- 17 - ذل قوم أسندوا رأيهم إلى امرأة.

- 18 - رحم اللّه أمرأ أعان أخاه بنفسه.

- 19 - صنائع المعروف تقي مصارع السوء.

- 20 - لا خير في خير بعده نار، ولا شر في شر بعده الجنة.

- 21 - لا دين لأحد لا إيمان له، ولا أجر لمن لا حسبة له، ولا عمل لمن نية له.

- 22 - لا يكونن قولك لغوا في عفو ولا عقوبة.

- 23 - ليتني كنت شجرة تعضد ثم تؤكل.

- 24 - ليست مع العزاء مصيبة.

- 25 - الموت أهون مما بعده وأشد مما قبله.

وكان يأخذ بطرف لسانه ويقول:

- 26 - (هذا الذي أوردني الموارد).

- 27 - قال رجل لأبي بكر رضي اللّه عنه: (واللّه لأسبنك سبا يدخل القبر معك)، فقال: (معك يدخل لا معي).

هذه بعض كلمات أبي بكر الصديق التي عثرنا عليها. ومع ذلك فإنه كان قليل الكلام، طويل الصمت، كثير العبادة. كذلك لم يرو عنه من الأحاديث إلا 42 حديثا مع تقدم صحبته وملازمته لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. وعندي أن ذلك لإيثاره الصمت وشدة الاحتياط، فإنه كان يمسك لسانه ويقول: (هذا الذي أوردني الموارد) فهل يعتبر بذلك الذين يؤثرون الكلام على الصمت والقول على العمل؟؟

الفهرس

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

خاتمة في حياة خالد بن الوليد (سيف اللّه)

- خالد بن الوليد بن المغيرة بن عبد اللّه بن عمرو بن العاص بن مخزوم، أبو سليمان وقيل أبو الوليد. أمه لبابة الصغرى وهي بنت الحارث بن حزن الهلالية وهي أخت ميمونة بنت الحارث زوج رسول اللّه وأخت لبابة الكبرى زوج العباس بن عبد المطلب عم النبي صلى اللّه عليه وسلم وهو ابن خالة أولاد العباس بن عبد المطلب الذين من لبابة.

هو البطل المشهور والفارس المأثور. صاحب الفتوحات العظيمة والغزوات الكثيرة، وأشهر الفاتحين في الإسلام.

كان أحد أشراف قريش في الجاهلية، وكان إليه القبة وأعنة الخيل في الجاهلية. أما القبة فكانوا يضربونها يجمعون فيها ما يجهزون به الجيش وأما الأعنة فإنه كان المقدم على خيل قريش في الحرب أي أنه كان قائد فرسانهم.

حارب المسلمين في غزوة أحد قبل إسلامه. ولما خالف الرماة أمر رسول اللّه وبرحوا مكانهم طمعا في الغنيمة، ورأى خالد خلاء الجبل الذي كان فيه الرماة وقلة أهله أتى من خلف المسلمين وكر عليهم بالخيل وتبعه عكرمة بن أبي جهل، فوقع الاختلاط فيهم إلا أن كفار قريش لم يجنوا ثمار انتصارهم فلم يحاولوا الهجوم على المدينة بل قفلوا راجعين إلى مكة.

وكان خالد من الذين يناوشون المسلمين هو وعمرو بن العاص غي غزوة الخندق وكان قائدا لفرسان قريش في الحديبية.

إسلامه

- كان خبر إسلام خالد أن عمرو بن العاص لما عاد من الحبشة بعد مقابلة النجاشي لقي خالد بن الوليد وهو مقبل من مكة. قال عمرو بن العاص: (فقلت له أين يا أبا سليمان؟ قال واللّه لقد استقام الميسم "أي تبين الطريق وظهر الأمر" وأن الرجل لنبي. أذهب واللّه فأسلم فحتى متى؟ قلت: واللّه ما جئت إلا لأسلم فقدمنا المدينة على رسول اللّه فتقدم خالد بن الوليد).

قدم خالد هو وعمرو بن العاص وعثمان بن طلحة العبدري على رسول اللّه فلما رآهم صلى اللّه عليه وسلم قال لأصحابه (رمتكم مكة بأفلاذ كبدها) وذلك لرفعة شأنهم في قريش.

قال خالد بن الوليد (لما أراد اللّه عز وجل بي ما أراد من الخير، قذف في قلبي الإسلام وحضر لي رشدي وقلت قد شهدت هذه المواطن كلها على محمد فليس موطن أشهده إلا أنصرف وأنا أرى في نفسي أني موضع في غير شيء وأن محمدا يظهر. فلما جاء لعمرة القضية تغيبت ولم أشهد دخوله وكان أخي الوليد بن الوليد دخل معه فطلبني فلم يجدني فكتب إلي كتابا فإذا فيه:

"بسم اللّه الرحمن الرحيم. أما بعد فإني لم أر أعجب من ذهاب رأيك عن الإسلام وعقلك عقلك، أو مثل الإسلام يجهله أحد؟ قد سألني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عنك. فقال أين خالد؟ فقلت يأتي اللّه به. فقال: ما مثله يجهل الإسلام ولو كان يجعل نكايته مع المسلمين على المشركين كان خيرا له ولقدمناه على غيره. فاستدرك يا أخي قد فاتك من مواطن صالحة".

فلما جاءني كتابه نشطت للخروج وزادني رغبة في الإسلام وسرتني مقالة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ورأيت في المنام كأني في بلاد ضيقة جدبة فخرجت إلى بلاد خضراء واسعة. فلما أجمعت على الخروج إلى المدينة لقيت صفوان بن أمية فقلت: يا أبا وهب أما ترى أن محمدا ظهر على العرب والعجم؟ فلو قدمنا عليه واتبعناه فإن شرفه شرف لنا؟ فقال: لو لم يبق غيري ما اتبعته أبدا. فقلت هذا رجل قتل أخوه وأبوه ببدر. فلقيت عكرمة بن أبي جهل فقلت له مثل ما قلت لصفوان فقال مثل الذي قال صفوان. قلت فاكتم ذكر ما قلت لك. قال لا أذكره. ثم لقيت عثمان بن طلحة الحجبي. قلت هذا لي صديق فأردت أن أذكر له. ثم ذكرت قتل أبيه طلحة وعمه عثمان وإخوته الأربعة: مسافع والجلاس والحارث وكلاب، فإنهم قتلوا كلهم يومئذ يوم أحد فكرهت أن أذكر له. ثم قلت له: إنما نحن بمنزلة ثعلب في حجر لو صب فيه ذنوب من الماء لخرج. ثم قلت له ما قلت لصفوان وعكرمة فأسرع الإجابة وواعدني إن سبقني أقام بمحل كذا وإن سبقته إليه انتظرته فلم يطلع الفجر حتى التقينا فعدونا حتى انتهينا إلى الهدة "اسم محل" فوجدنا عمرو بن العاص بها. فقال: مرحبا بالقوم فقلنا وبك، قال أين مسيركم؟ قلنا الدخول في الإسلام فقال: وذلك الذي أقدمني).

فوصلوا المدينة وقال خالد (فلبست من صالح ثيابي ثم عمدت إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فلقيت أخي فقال أسرع فإن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد سر بقدومكم وهو ينتظركم، فأسرعنا المشي فأطلعت عليه فما زال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يبتسم حتى وقفت عليه. فسلمت عليه بالنبوة فرد علي السلام بوجه طلق فقلت: إني أشهد أن لا إله إلا اللّه وأنك رسول اللّه قال: "الحمد للّه الذي هداك، وقد كنت أرى لك عقلا رجوت أل يسلمك إلا إلى خير"، قلت: يا رسول اللّه ادع اللّه يغفر تلك المواطن التي كنت أشهدها عليك. فقال صلى اللّه عليه وسلم: "الإسلام يجب ما كان قبله" وتقدم عثمان بن طلحة وعمرو فأسلما وقد شهد رسول اللّه لخالد بالعقل كما ترى).

إن خالدا كما قلنا كان من رجال قريش المعدودين فكان أشجعهم قلبا، عالما بفنون الحرب، فارسا مغوارا لا يرهب الموت، ولا تهوله كثرة الجيوش لكنه مع ذلك أخفق في محاربة رسول اللّه ولم تنفعه شجاعته ولم تفده فروسيته لذلك كان يرى أنه في غير شيء إزاء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كما اعترف بنفسه. فماذا يعمل خالد وغير خالد أمام النبوة ورسول اللّه يمده اللّه سبحانه وتعالى بالقوى الظاهرة والباطنة وتقع على يديه المعجزات الباهرة التي دونها بطولة الأبطال وشجاعة الشجعان وعلوم الخلق كافة ويبشره اللّه بالنصر والفتح المبين؟ وماذا يفعل وهو يرى انتشار الإسلام ودخول الناس في دين اللّه أفواجا. وقد ألفى نفسه وحيدا كعمرو بن العاص لا يقدر على عمل شيء. هذا وقد كان رسول اللّه يعرف الرجال ويقدرهم ولذلك كان يرجو أن يهدي اللّه خالدا إلى الإسلام ويجعل نكايته مع المسلمين على المشركين، فنصحه أخوه الوليد الذي سبقه إلى الإسلام أن يسلم فأثر فيه النصح بعد أن فكر في مواقفه الماضية، وفكر في كرامته فبادر إلى الدخول في الإسلام تكفيرا عن سيئاته وإراحة لضميره وصونا لكرامته، وقد صدقت فيه فراسة رسول اللّه كما صدقت فراسته في عمر بن الخطاب، فإن خالدا بعد أن أسلم دافع عن الإسلام دفاعا مجيدا قل أن يحدث مثله في تاريخ العالم. وقد شهد له بذلك الصحابة والأمم التي حاربها من فرس وروم واعترف له علماء التاريخ بالكفاية الحربية النادرة، وصدق فيه قول رسول اللّه (إنه سيف من سيوف اللّه).

وقد كتب الأستاذ أوجست مولر في كتابه (الإسلام) يصفه فقال: (لقد كان خالد من أولئك الذين كانت عبقريتهم الحربية هي مل حياتهم الفكرية، مثل نابليون فإنه لم يعن بشيء غير الحرب ولم يرد أن يتعلم شيئا غير ذلك).

وهذا ما قاله خالد عن نفسه (شغلني الجهاد عن تعلم كثير من القرآن).

ومن ذا الذي يدري ماذا كان يصنعه خالد لو أنه تلقى الفنون الحربية واستعمال الأسلحة المختلفة وأساليب القيادة وخطط الهجوم والدفاع أو لو أنه عاش في زمن انتشرت فيه الطرق المنظمة وامتدت السكك الحديدية لنقل الجيوش وتموينها، في ومن اختراع التلغراف والتليفون واللاسلكي والأسلاك الشائكة، والغازات الخانقة، والمدافع الكبيرة والأساطيل العجيبة، والمفرقعات المخيفة، والطيارات التي تلقي القنابل؟

ألا ترى أنه بواهبه الحربية الفطرية وشجاعة قلبه وعقيدته الإسلامية قاد جيوش المسلمين على قلة عددهم وعددهم التي لم تتجاوز السيف والقوس والفرس، فهزم امبراطوريتين ملكتا العالم بكثرة جيوشهما ووفرة الذخائر والمال - ألا وهما الفرس والرومان، فكانت جيوشهما تقتل وتفر أمامه من الميدان مهزومة، وكبار القادة يصرعون أو يسلمون، والمدن الحصينة تفتح أبوابها وتسلم وتخضع أمام قوة العقيدة وصدق الإيمان والإخلاص وعدم الاكتراث بمواجهة الجيوش الجرارة طمعا في الشهادة فهل تقاس هذه الشجاعة الخارقة وتلك المواهب النادرة التي اكتسحت الأمم بأي قائد من قواد الدنيا؟ اللّهم لا.

كان خالد بن الوليد موضع إعجاب أبي بكر الصديق رضي اللّه عنه وحسن تقديره، فكان إذا هزم الفرس استدعاه لقتال الروم فيسير إلى الشام هو وجيشه الذي كان أطوع له من بنانه، من غير أن يذوق للراحة طعما فلا يكاد يقود الجيش في الميدان الآخر حتى يفتح البلاد والحصون المنيعة ويوقع الرعب في قلوب الأعداء فيستولي المسلمون على بلادهم ويفر أمبراطور الروم من وجهه ويودع الشام الوداع الأخيرة كما فر وقتل قواد الفرس وعظماؤهم.

أليس من المدهش أن خالدا لم يهزم في موقعة من المواقع بل كان رائده النصر على الدوام؟ وكان العدو يخاف ويقع الرعب في قلبه بمجرد ذكر اسمه أو اقتراب جيشه. لذلك كانوا يبادرون إلى عقد الصلح معه لئلا يداهمهم بما لا قبل لهم به. وقد سأله عظيم من الروم هل أنزل اللّه عليه سيفا من السماء يحارب به الأعداء؟

كان إسلام خالد في شهر صفر بعد الحديبية، وكانت الحديبية في ذي القعدة من السنة السادسة الهجرية (فبراير سنة 628 م).

شهد خالد غزوة مؤتة، وقد كان الأمير في غزوة زيد بن حارثة واستشهد فيها زيد ثم أخذ الراية بعده جعفر بن أبي طالب فاستشهد أيضا. ثم أخذها عبد اللّه بن رواحة فقتل أيضا. ثم اتفق المسلمون على دفع الراية إلى خالد بن الوليد فأخذها وقاتل قتالا شديدا. وما زال يدافع القوم حتى انحازوا عنه. ثم ارتد بانتظام وعاد بجيش المسلمين سالما إلى المدينة، وفي هذه الغزوة سماه النبي صلى اللّه عليه وسلم سيفا من سيوف اللّه، إذ لولا تدبره وإحكامه خطة التقهقر لقضي على الجيش لقلة عدده أمام ذلك الجيش العظيم.

وشهد خالد فتح مكة، وحنينا، وفي غزوة حنين قتل امرأة فنهاه النبي صلى اللّه عليه وسلم عن قتل النساء، والأولاد، والأجراء.

ثبت في صحيح البخاري عن خالد أنه قال: (اندق في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف فما ثبت في يدي إلا صفيحة يمانية).

وولاه رسول اللّه أعنة الخيل، فكان في مقدمتها، وشهد فتح مكة فأبلى فيها، وبعثه رسول اللّه إلى العزى (صنم) فهدمها وقال:

يا عز كفرانك لا سبحانك إني رأيت اللّه قد أهانك

وبعد أن هدم خالد العزى رجع إلى رسول اللّه فقال له: هل هدمتها؟ قال نعم. فقال له: هل رأيت شيئا؟ فقال لا. قال فإنك لم تهدمها فارجع إليها فاهدمها. فرجع وهو متغيظ فلما انتهى إليها جرد سيفه فخرجت إليه امرأة سوداء عريانة ناشرة الرأس فجعل السادان (خادم الصنم) يصيح بها قال خالد وأخذني اقشعرار في ظهري فجعل السادان يصيح ويقول:

أَعُزُّ شُدِيّ شدة لا تكذبي ** أعز ألقي للقناع وشمري.

أعز إذا لم تقتلي اليوم خالداً ** فبوئي بذنب عاجل وتنصّري.

فأقبل خالد إليها بالسيف فضربها فشقها نصفين ثم رجع إلى رسول اللّه فأخبره. فقال: (نعم تلك العزى قد أيست أن تعبد ببلادكم أبدا) ثم قال خالد: (أي رسول اللّه الحمد للّه الذي أكرمنا بك وأنقذنا من التهلكة. ولقد كنت أرى أبي يأتي إلى العزى ومعه مائة من الإبل والغنم فيذبحها للقرى ويقيم عندها ثم ينصرف إلينا مسرورا فنظرت إلى ما مات عليه أبي وذلك الرأي الذي كان يعاش في فضله كيف خدع حتى صار يذبح لحجر لا يسمع ولا يبصر ولا ينفع) فقال رسول اللّه: (إن هذا الأمر إلى اللّه فمن ييسره للّهدى ييسر، ومن ييسره للضلالة كان فيها).

ولا يصح لخالد مشهد مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قبل فتح مكة وأرسله رسول اللّه إلى أكيدر صاحب دومة في رجب سنة تسع وأحضره عند رسول اللّه فصالحه على الجزية، ورده إلى بلده.

وأرسله رسول اللّه سنة عشر إلى بني الحارث بن كعب بن مذحج فقدم معه رجال منهم فأسلموا ورجعوا إلى قومهم.

وأمره أبو بكر الصديق رضي اللّه عنه على قتال مسيلمة الكذاب والمرتدين باليمامة، وكان له في قتالهم الأثر العظيم كما مر ذكره في كتابنا هذا، وله الآثار المشهورة في قتال الروم بالشام، والفرس بالعراق، وهو أول من أخذ الجزية من الفرس في صلح الحيرة، وافتتح دمشق وكان في قلنسوته شعر من شعر رسول اللّه يستنصر به ويتبرك فلا يزال منصوراً.

ولما حضرت خالد الوفاة قال:

(لقد شهدت مائة زحف أو نحوها وما في بدني موضع شبر إلا وبه ضربة، أو طعنة، أو رمية، وها أنل أموت على فراشي كما يموت العَيْر، فلا نامت أعين الجبناء، وما لي من عمل أرجى من لا إله إلا اللّه وأنا متترس بها).

وكان يشبه عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه في خلقه وصفته.

وتوفي في خلافة عمر بن الخطاب سنة 21هـ (641 - 642 م) وعمره بضع وأربعون سنة، وكانت وفاته بحمص، وقبره مشهور يزار إلى الآن في ضمن مسجد واقع خارج السور إلى الجهة الشمالية من حمص وقد اتصل به العمران وصار حوله لهذا العهد حي يسمى (حي سيدي خالد) كما يسمى المسجد أيضا مسجد سيدي خالد.

قال رفيق بك العظم في كتابه (أشهر مشاهير الإسلام) وقد زرته مرة فوجدت عليه من المهابة والوقار ما يأخذ بمجامع القلوب التي يعرف أصحابها أقدار الرجال ويتأثرون بذكرى عصر أولئك الأبطال.

وقد كان لخالد أولاد كثيرون انقرضوا جميعا في الطاعون فلم يبق منهم أحد، وورث أيوب بن سلمة دورهم بالمدينة.

وكان عمر يقول لما مات خالد: قد ثلم في الإسلام ثلمة لا ترتق، ولقد ندمت على ما كان مني إليه.

ورثته أمه فقالت:

أنت خير من ألف ألف من الناس ** إذا ما كبت وجوه الرجال

أشجاع فأنت أشجع من ليـث ** عرين حميم إلى الأشبال

أجواد فأنت أجود من سيــل ** دياس يسيل بين الجبال

ولخالد كرامات منها أنه ابتلع السم فلم يؤثر فيه كما مر ذكره، ومنها ما رواه ابن أبي الدنيا بإسناد صحيح عن خيثمة قال أتى خالد بن الوليد رجل معه زق خمر. فقال: اللّهم اجعله عسلا فصار عسلا. رحمه اللّه رحمة واسعة ونفعنا بذكرى حياته المملوءة عبراً، وشهامةً، وبلاءً حسناً في سبيل اللّه. وسنذكر إن شاء اللّه تعالى بقية حروب خالد في خلافة عمر بن الخطاب في كتابنا (عمر بن الخطاب).

وقد أردنا بهذه الكلمة الوجيزة تذكير المسلمين بحياة هذا البطل الطائر الصيت الذي سجل في تاريخ القيادة والبطولة صفحات ذهبية خالدة، ولا شك (أن حياة خالد خالدة) في الأسفار والقلوب، وأردنا كذلك أن نصور هذه الشخصية البارزة بصورة جلية واضحة حتى تكون ماثلة أمامنا باعثة للّهمم، وعبرة للمعتبرين، وقدوة يقتدي بها الأبناء في حسن البلاء، والإقدام، والصبر والإخلاص، ورفعة الشأن، والتمسك بالمبدأ حتى النفس الأخير، فإن بمثل هذا القائد العظيم فتح اللّه على المسلمين فنشروا التوحيد والعقيدة الصحيحة، وقضوا على الوثنية والشرك، ووضعوا دعائم العدل والفضل.

نهاية الكتاب

انتهى الكتاب بحمد الله

No comments:

Post a Comment